top of page
أولاً..المسـيرةُ العـملية
نادراً ما ينجح المبدع في الجمع بين إبداعه ومنصب المسؤل .لابد أن يكون أحدهما على حساب الآخرولوجزئياً المنصب للمبدع على نقيض ما يفترضه بعضهم عب أكثر منه ميزة ،لكن المبدع عندنا في الوطن العربي مطحون بين حجري الرحى فإذا اختارأن يتفرغ للإبداع طيلة حياته فسيبقى ينطح الصخر ساعياً لتحقيق مشاريعه وسط عقبات يضعها في طريقه البيروقراطيون.أما إذا قبل ازدواجية استلام المنصب مع الإبداع فربما حقق بعض أحلامه

كنا طلاباً نلتهم الكتب ونقرؤها ونتابع بشغف العديد من الإصدارات والمجلات ، ومايكتبه بعض المشاهير في شتى أنواع المعرفة ..ونمني النفس بأن الوقت المناسب للكتابة هو بعد التخرج ، وتهيئة المناخ المناسب لذلك من متطلبات الحياة . وبعد التخرج وجدت أنني متعلق بالتدريس ، حيث كان غاية الطموح أن يصبح المرء موظفاً رسمياً في الدولة وعلى مدى ثلاث سنوات أمضيتها في حقل التعليم بين الدمام والرياض ما بين عام 1389-1392هـ هي كل المدة التي عملت فيها مدرساً للمراحل المتوسطة والثانوية وخلال هذه الفترة التي تلت سنة التخرج من كلية اللغة العربية بالرياض
كانت الأفكار والمشاريع تزدحم ما بين مواصلة الدراسة العليا خارج المملكة أو الذهاب ضمن الموفدين للعمل في الجزائرأو دول الخليج وإلى جانب الممانعة الشديدة من والدتي رحمها الله قبلت الذهاب إلى الإمارات العربية ، حيث عملت مديراً لإذاعة رأس الخيمة معاراً من حكومة المملكة العربية السعودية وكانت إذاعة . تعمل بين مجموعة من الإذاعات التي أحدثت في كل إمارة ، حيث كان التحدي في منتهى الصعوبة. فعملت دون كلل وواصلت الليل مع النهار وتقدمت إلى وزارة الإعلام السعودية بطلب مجموعة من المذيعين السعوديين والفنيين المتعاقدين . وتمت موافقة الملك فيصل رحمه الله على ذلك ، واستمر عملي لمدة أربع سنوات تخللتها مجموعة كبيرة من الأحداث السياسية والمتغيرات المتسارعة
وكنت إلى جانب عملي الإداري في الإذاعه أقوم على إعداد برنامجين إذاعيين-صباحاً ، ومساءاً. وبرنامج سياسي متنوع يذاع يوم الجمعة . وعليكم أن تدركوا مدى المعانات الكبيرة التي يتطلبها ذلك الإعداد مع مراقبة لنشرات الأخبار قبل إذاعتها بعد صلاة الفجر مباشرة ، ومتابعة التسجيلات الجديدة إذ كان إعتماد الإذاعة على مايتم إعداده داخل استديوهات الإذاعة .. بالإضافة إلى المشاركة في الاجتماعات التي تعقد في وزارة الإعلام في أبوظبي وبصورة دائمة . والمشاركة في المؤتمرات لاتحاد الإذاعات العربية والإسلامية
وفي مجال الصحافة كنت محرراً مسئولاً في مجلة " رأس الخيمة " التي تصدر شهرياً إلى جانب رئيس تحريرها وفي هذه الأثناء اشتركت مع مجموعة من أساتذة جامعة" ألونوي" والقنصل البريطاني في دبي في بحث أكاديمي عن قبائل الشحوح التي تسكن أعالي الجبال في إمارة رأس الخيمة على الحدود مع سلطنة عمان . والوقوف على أصول اللهجة التي يتحدث بها هؤلاء ، وعلاقتهم بقبائل البربر في الجزائر والمغرب العربي. إذْ كانت هذه القبائل تتحدث بلهجة غير معروفة لدى سكان الإمارة ولا يمكن التفاهم معهم إلا بالعربية المحكية في الإمارة وقد استفدت من هذه الدراسة البحثية وكتبت عنها في مجلة الإمارة .. ورأى الفريق العلمي أن أتقدم للتسجيل في جامعة "ألونوي" في شيكاجو لمواصلة دراستي هناك وأرسلت إلي أوراق القبول .....بيد أني عدت إلى المملكة استجابة لإلحاح والدتي وأن أكون بجانبها بعد أن قرر أخي الوحيد السفر خارج المملكة للعمل أيضاً
عدتُ إلى المملكة ولم أعد راغباً العمل في وزارة الإعلام لأسباب شخصية ووظيفية مع وزير الإعلام آنذاك حيث استأنفتُ العمل بوزارة المعارف ، مديراً للقسم الهندسي والمشاريع بمنطقة الرياض التعليمية ولمدة عام 1398هـ
ثُم انتقلت إلى وزارة التعليم العالي . وكانت وزارة ناشئة آنذاك وعملت مديراً للعلاقات الجامعية الدولية ، ثم مديراً عاماً مساعداً للبعثات والعلاقات الجامعية الدولية وحتى عام 1409هـ . وكانت فترة متميزة في مسيرتي العملية إلى جانب معالي الشيخ حسن بن عبد الله آل الشيخ هذا الرجل العظيم في عطائه وأخلاقه . وأريحيته ونبله وإنسانيته ولا أعرف أنني ألتقيت رجلاً قبله أو بعده في مثل محبته لكل الناس ومساعدته وإنسانيته -رحمه الله - رحمة واسعة وجزاه عن أمته وكل رجال العلم في هذا البلد خير الجزاء
أثناء عملي بوزارة التعليم العالي قمت على جمع أنظمة ولوائح الابتعاث بتوجيه من معالي الوزير ولم تكن مجموعة من قبل وإنما كانت قرارات وأوامر ولوائح صدرت خلال أعوام سابقة كما سعيت على إصدار دليل الجامعات العربية والأجنبية التي تعتمدها الوزارة للدارسة خارج المملكة في جميع التخصصات وهو دليل يضاف إلى قائمة الجامعات لدى جامعة الملك سعود ومعهد الإدارة العامة
تمكنت خلال هذه الفترة من عملي من زيارة معظم المكاتب الثقافية في مختلف دول العالم في أمريكا ، وأوروبا ، والصين الوطنية . ولعل أبرز هذه المحطات كانت في الولايات المتحدة إذ كنت ضمن لجنة مشكلة من جهات عدة لاستئجار مقار للمكاتب الثقافية في عدة فروع في بعض الولايات الأمريكية كما كانت زيارة الصين الوطنية لافتتاح مكتب ثقافي هناك زيارة أثرت معرفتي بالإطلاع على جوانب من الحياة في هذه البلاد التي كانت زيارتها حُلماً طالما راودني ..وتطلعت إلى تحقيقه وكانت رحلة ملأى بالمفاجآت ، تمكنت فيها من الوقوف على أنواع من العادات والثقافات التي تختلف اختلافاً كبيراً
للغاية.وإذ كنت قرأت عنها في كتب الرحالة فإن المشاهدة تجسد الصور وتجعل المشاهد يلمس ذلك واقعاً حياً ينبض بالحركة فما راءٍ كمن سمعا وليس الخبركالعيان
إن النقلة النوعية في حياتي العملية هي حينما صدر قرار وزير التعليم العالي الدكتورعبد العزيزالخويطر- متعه الله بدوام الصحة وأمد في عمره ....بنقلي للعمل ملحقاً ثقافياً في الجمهورية العربية السورية عام 1409 هـ
بدلاً من الملحق السابق والمربي الفاضل الأستاذ حمزه عابد بعد أن تمت إحالته على التقاعد . ولم يدر بخلدي أن أذهب للعمل خارج المملكة مهما كانت الأسباب. نظراً لتقدم سن والدتي وإلتحاق أبنائي بمدارسهم وفي مراحل مختلفة من الدراسة . بيد أن من اتخذ القرار تضيق ذراعي أن أرد له أمراً . كما رأى البعض بأن أذهب ولو مدة قصيرة ثم أقدم اعتذاراً مقبولاً. وباشرت عملي في دمشق أقدم رجلاً وأؤخر أخرى . وكان مماسهل استمراري في العمل وجود أخي بجانب والدتي ، ومجئ أسرتي في فصل الصيف إذ كانت بداية عملي في بداية الصيف .ثم أنني أحسست ُ بأنني أمارس عملاً ثقافياً طالما اشتقت إليه . فتعرفت على العديد من الأدباء والشعراء والعلماء ، كما وجدت مدينة دمشق لاتزال نبضاً ثقافياً متدفقاً في كل جوانب الحياة ولم تكن قد سرت إليها رياح التغيير المادي وثورة المعلومات ، وأسواق الأسهم والبورصات وتحولات العولمة بشتى صورها، وكانت بعيدة كل البعد عن هذا الطوفان اللاهث . فقد كانت دمشق تزخربالمراكز الثقافية ، والمنافسات الأدبية . وكنت أجدني مع بدوي الجبل تارة ومع أدونيس ، ومحمد الجواهري ، وعمر أبوريشة وعبد السلام العجيلي، وشوقي بغدادي .ووجيه البارودي، وشقيق جبري ، شكيب الجابري ....في بلودان . كما رأيتني أحضر مجلساً شهرياً يُقيمه وزير الدفاع العماد مصطفى طلاس يحضره نخبة من الأدباء ، والشعراء السوريين أطلق عليه " ساعة لقلبك " تسجل كل وقائعه ثم يصدر في كتاب نهاية كل عام
كما أن هناك ملتقى ثقافياً أسبوعياً يضم مجموعة من أدباء وأساتذة دمشق ينعقد كل أسبوع داخل المكتب الثقافي مدة ساعة
يضم نخبة كانوا من أبرز الأصدقاء مدة عملي في دمشق وعلى مدى (16) عاماً لم تنقطع .ومنهم الأستاذ هاني المبارك أستاذ اللغة العربية الأول في دمشق ، والأستاذ سعيد الأفغاني ، والدكتور شوقي أبو خليل ، والدكتور عدنان الخطيب أمين مجمع اللغة العربية في دمشق ، والأستاذ مدحت عكاش رئيس تحرير مجلة الثقافة السورية والأستاذ بديع حقي . الروائي السوري ، والأستاذ عبد الغني العطري ، والدكتور شاكر مصطفى وعصام الحلبي . وكنت التقيت منذ وصولي دمشق الدكتورعبد السلام العجيلي الروائي والكاتب والشاعر والطبيب والوزير. فازددت إعجاباً ومحبة وتقديراً لهذا الرجل الرائع ودامت بيننا علاقة حميمة ومتينة وإذ كنت قرأتُ عنه ما قاله الشاعر نزار قباني بأنه أروع بدوي عرفته المدينة وأروع مدني عرفته البادية . فأني وجدت أن هذا الوصف يقصر عن الإحاطة بروعته ونبله وسمو أخلاقة. فضلاً عما يختزنه من ثقافة وآداب ، ومعرفة بأحوال الأمم والشعوب وأحوال الرجال. ثم إنه موسوعة هائلة إذا تحدث عن أي جانب أثرى حديثه بالحقائق والأرقام . فضلاً عما يمتلكه من أسلوب ماتع إذا تحدث قلت ليته لم يسكت ، وكان زينة المجالس والمنتديات لم أعرف رجلاً أجمع السوريون على محبته وتقديره كما أجمع على الدكتور العجيلي رحمه الله رحمة واسعة (الدكتورالعجيلي) كان محطة ثقافية مشرقة في حياتي وسأتناول هذه الفترة معه في مسيرتي الإبداعية
لقد كان عملي في دمشق يتطلب مني القيام بأعمال المكتب الثقافي في كل من بيروت وعمَّان حيث كانا مقفلين آنذاك وكانت زيارتي لبيروت تكاد تكون نصف شهرية. فالتقيت بالعديد من الشخصيات الأدبية والثقافية . وشاركت في أمسيات شعرية وندوات ومؤتمرات ومعارض للكتاب كما كنت على صلة وطيدة بعميد المحررين الأستاذ ملحم كرم وعميد الصحفيين الأستاذ منير بعلبكي ورؤساء تحرير بعض الصحف والمجلات اللبنانية ورؤساء المراكز الثقافية في بيروت وجونيه ، وجبيل . وفي عمَّان بالمملكة الأردنية الهاشمية كانت صلاتي بالعديد من مدراء الجامعات الأردنية ، وبعض العلماء والأدباء وخاصة بالدكتور ناصرالدين الأسد . وزير التعليم العالي ورئيس جامعة أهل البيت سابقاً. وفي المجال الثقافي سعت الملحقية الثقافية إلى إقامة تظاهرة ثقافية للجامعات السعودية في رحاب الجامعات السورية . أطلق عليها " الأيام الثقافية للجامعات السعودية في رحاب الجامعات السورية " تمت الموافقة عليها من الجهات العليا في المملكة واستمرت عشرة أيام في عدة محافظات سورية . ولقيت نجاحاً وترحيباً كبيراً شارك فيها ما يقرب من أربعين مسئولاً وأستاذاً وطبيباً وأدبياً وشاعراً بالإضافة إلى مدراء الجامعات في المملكة . ومجموعة كبيرة من رجال الإعلام والصحافة وكان ذلك عام 1997م . وهذه التظاهرة الثقافية هي الأولى من نوعها التي تقيمها الجامعات السعودية خارج المملكة .كما أن الجامعات السورية لم تشهد في تاريخها حدثاً ثقافياً بهذا الحجم والكيف . بالإضافة إلى الندوات والأمسيات التي تشارك فيها الملحقية سنوياً بمناسبة معرض الكتاب الدولي في دمشق واليوم الوطني للملكة .سعت الملحقية على إقامة ندوة عن علامة الجزيرة العربية الشيخ حمد الجاسر-رحمه الله - بمشاركة عدد من العلماء السعوديين والسوريين واللبنانيين والأردنيين وكان لها صدى كبيراً وطيباً. وساهمت الملحقية الثقافية بالمشاركة والإعداد لمناسبات ثقافية مع جمعية الثقافة والفنون في المملكة ، ودارة الملك عبد العزيز أقيمت في دمشق وبيروت ... هذه لمحة موجزة عن جوانب الحياة العملية
ثانياً..المسـيرة الإبداعـية
كان والدي"رحمه الله "حافظاً لكتاب الله وإماماً لمسجد الحي" حي القصور" بمدينة (الدلم) . بالإضافة إلى عمله عضواً في هيئة النظربمحكمة الدلم .يعمل مع سماحة الشيخ عبدالعزيزبن باز"رحمه الله"... وكان يقيم حفلاً سنوياً في كل عام مع بداية فصل الربيع يدعى إليه إلى جانب سماحة الشيخ العديد من طلاب العلم وأعيان المدينة تتم قراءة آيات من القرآن الكريم ممن يمتلكون صوتاً قوياً ومؤثراً .. ثم يقوم سماحة الشيخ بالتعليق على الآيات وتفسيرها والحث على طاعة الله سبحانه بعد ذلك يتم
إلقاء قصيدة ابن الوردي يلقيها أحد المرافقين لسماحة الشيخ وبإنشاد مؤثر للغاية
اعتزل ذكرالأغاني والغزل
وقُل الفصل وجانب من هزل
ودع الـذكر لأيام الصبا
فلأيام الصـبا نجـم أفـل
حتى إذا بلغ الأبيات
أين نمرود, وكنعان, ومن
ملك الأرض وولَّى وعـزل
سيعيدُ الله كلاً منهم
وسـيجزي فاعلاً عمَّا فعل
ارتفعت الأصوات بالبكاء والنشيج وسألوا الله العافية وحسن الختام في الدنيا والآخرة. وكان الموقف مؤثراً لطفل يتابع هذه الأحداث ويحاول أن يقلد القارئ ، وملقي القصيدة فكان والدي"رحمه الله "يتعهدني بتلاوة القرآن وحفظه وتجويده ، ويطلب مني أن أقرأ بعد صلاة العصرعلى الجماعة فصولاً من" عقود اللؤلؤ والمرجان " وهو كتاب صدرفي ذلك الوقت يشتمل على الترغيب والترهيب.كما كان يطلب مني أن أقرأ بعد صلاة العشاء إذا كان لديه جماعة من أهل الحي أوأحد الضيوف القادمين قصة يوسف عليه السلام وكانت مكتوبة شعراً .. وهي قصيدة مؤثرة وتترك إنطباعاً في نفوس سامعيها مما يجعلهم يأتون مرات ومرات لسماعها . وأبياتها تزيد على المئات من الأبيات وفي هذا الجو الديني والأدبي عشقت القراءة وقراءة الشعر والأدب وفي المرحلة المتوسطة كنت أمتلك ديوان امرئ القيس ، وعمر بن أبي ربيعة ، ومحمد بن عثيمين إلى جانب " ديوان النبط الحديث " لمجموعة من الشعراء .. حميدان ، والقاضي ، وابن لعبون وغيرهم
وفي هذه الفترة توفي والدي رحمه الله فانتقلت مع والدتي وأخي الشقيق عبد الله إلى مدينة الرياض والتحقت بالمعهد العلمي نهاراً و بالمتوسطة الأولى ليلاً. وازداد شغفي بالشعرالنبطي في بداية الأمر. وكتبت أول قصيدة هجائية عبثية في شخص لم يكن بيني وبينه أيُ خلاف وإنما تم التحريض عليه من قبل بعض الأقارب ..أرجو أن يسامحني الله عن ذلك وأن يغفر لذلك الرجل الذي علمت أنه توفي بعد سنوات طويلة من افتراقنا ولقد غضب معالي الشيخ راشد بن صالح بن خنين عند سماعه لهذه القصيدة وهو خالي لوالدتي فوبخني شديداً وطلب ألا أعيد تكرار مثل هذا الشعر الجارح ، وأن أوجه إبداعي إن كان هناك إبداع إلى غير هذه الأغراض . وكانت هذه القصيدة الوحيدة والأخيرة في فن الهجاء وبعد ذلك كتبت قصيدة في كفاح الشعب الجزائري مشيداً بأبطاله ونضاله ولكني فقدتها ولم أعثرعلى أبياتها .ثم نشرت قصيدة في "اليمامة " في باب القراء وعلق المحررعليها بالترحيب والاستحسان .كل هذه القصائد من الشعرالفصيح والنبطي تجاوزته وأتلفته سواء ماكتبته لنفسي أوقرأته على زملائي أوألقيته في نادي المعهد العلمي . واعتبرت أن أول قصيدة تستحق أن يتم الاحتفاظ بها بعد ذلك هي قصيدة عنوانها ( لحن الشكر ) موجه لفضيلة الشيخ راشد بن خنين وكنت في زيارة له بمدينة الطائف ومنها
لبيكَ أجـملُ ألـحاني أغنيها
تَحكي فضَائل جود منك تحكيْها
خلّفت أرضَ ثقيفٍ تنتشي طرباً
والمـزن تمطـرُها والعينَ تبكيْها
: وقد أجابني بأبيات منها
يا مرحباً بقوافي الشعر يزجيها
ابنٌ حبيب إلى نفسـي يناجيها
أهلاً بدرَّته من نسـج خاطره
باكورةٌ بهرت نفسـي معانيها
وقبلها قصيدة في الغزل عنوانها "متى ترجعين" ومنها
تُسـائلني النجـمةُ الحانية
متى ترجـعينَ لنا ثـانيـة؟
متى ترجعـين أيا حلوتي
فينتشرالدفء في الناحية
وقصائد أخرى غيرها، وفي عدة مناسبات بيد أني أحتفظ بهذه القصائد ولم أكن راغباً في نشرها إنما أتداولها مع بعض الزملاء في المناسبات والاجتماعات ومرد ذلك الحذر الشديد من أن يساء فهمها أونقدها ؛ إذ كان النقد في تلك الفترة هوالبحث عن عيوب النص وتحميله مالا يحتمل .
عندما فقدت ابنتي "الصغيرة" وهي في طريقها للحج مع أقاربها رثيتها بقصيدة مؤثرة نشرت في "المجلة العربية "وكان لها صدى واسع في الأوساط الأدبية وتلقيت رسالة مؤثرة من معالي الشيخ حسن ابن عبد الله آل الشيخ " رحمه الله" حيث أبدى تأثره البالغ وأشاد بالقصيدة في مبناها ومعناها. وقال : بأن علي أن أنشر القصائد التي أكتبها في "المجلة العربية "فكانت محطة شعرية بالغة الأهمية .ومنذ ذلك الحين استمرنشر قصائدي في "المجلة العربية ". وفي بعض الصحف والمجلات العربية الأخرى .ولكن من غيرنشر لقصائد الغزل. عندما انتقل عملي إلى دمشق ملحقاً ثقافياً أدركت أن الوقت أصبح مناسباً للغاية للالتفات إلى مجال الثقافة والكتابة ، والشعر. وكانت البيئة صالحة للغاية فالمجتمع السوري يعشق الشعر والأدب ويقرأ باهتمام بالغ . ودمشق كانت الملهمة لمعظم القصائد كيف لا وهي العاصمة الأهم في تاريخ الفتح لإسلامي ، ومنطلق الفتوحات .وهي المدينة الأقدم الأهلة سكانياً في كل العصور .مساجدها ، كنائسها أوابدها فيها درج أبوتمام ، والمتنبي، والبحتري والمعري .والشريف الرضي وهي معشوقة الشعراء ومهوى أفئدتهم .أحمد شوقي ، وبشاره الخوري ، وأخيراً نزار القباني ، ومحمد مهدي الجواهري ، وسليمان العيسى ، وعبد السلام العجيلي . وفي ترابها تقوم شواهد الأبطال من معاوية ، وبنو مروان ، وصلاح الدين الأيوبي ، وابن تيمية . وكبار الصحابة في مقبرة الدحداح . ويوسف العظمة في ميسلون . فأنا في مدينة ليست عادية .كل زاوية فيها تتحدث عن تاريخ وحضارات وفي كل ركن شاعر غنى للعروبة أجمل الألحان ... فبادرت بنشر القصائد في مجلات "الثقافة" السورية ، ومجلة "المعرفة" ، وصحيفة "تشرين" .وفي الصحف اللبنانية والمجلات "البيرق" ، و"الديار" و"هديل" . ومجلة "الحوادث" اللبنانية ، وغيرها كما صدر لي أول "ديوان شعري الرياض العشق الأول" عام 1995م
ان وجودي في دمشق منطلقاً كبيراً لكل ألوان الإبداع الشعري . فشاركت في أمسيات عدة في مختلف المحافظات السورية ، وبيروت ، والتقيت العديد من الشعراء والأدباء بعضهم من الجيل الأول . عمر أبو ريشة ، وبدوي الجبل ، سليمان العيسى ، سعيد عقل . وجورج جر داق . وشوقي بغدادي ، ووجيه البارودي ، وعبد الرحمن منيف .والدكتور عبد الكريم اليافي والدكتور شاكر القحام و أودنيس . وغيرهم الكثير . تعرفت إليهم عن كثب وقرأوا بعض النصوص من شعري فلقيت التشجيع الكبير شفاهاً وكتابة .وربطني ببعضهم صلات متكررة في عدة مناسبات . لعلَّ من أبرز المحطات الثقافية والإبداعية في مسيرتي... صحبتي الطويلة للدكتور عبد السلام العجيلي وتعلقي بشخصه ، وشغفي بأدبه وإنتاجه . وملازمتي له فما إن يصل إلى دمشق قادماً من الرقة ، أو مغادراً إليها إلا ونلتقي وكنت أتوجه إليه في مدينته الرقة بصحبة الملحق الثقافي الأمريكي السيدة / أنجيلا التي حصلت على الماجستير في واحدة من روايات الدكتور العجيلي " عيادة في الريف " بالإضافة إلى مشاركتي معه في عدة مناسبات أدبية وثقافية في دمشق ، وحلب ، والرقة ، وتأثري به وكنت دائم الاستعادة لكل أحاديثه ، ومداعباته الأدبية ، والشعرية. فدارت بيني وبينه عدة قصائد منها : أن قدم لي قصيدة موجهة إلى إحدى الحسناوات وكانت قد تعلقت به ورغبت في الاقتران منه ولكنه " رحمه الله " صرفها ؛ لتقدم سنه وأنه لم يعد ذلك الفارس الذي تطمح الحسان في صهيله وعدوه ، فرماحه قد انكسرت وسيوفه قد صدئت فأغمدت . أخذت القصيدة وذهبت بها إلى السيد مدحة عكاش رئيس تحرير الثقافة السورية راغباً نشرها دون علم الدكتور العجيلي فنشرها ثم قمت بمعارضتها لاحقاً، ونشرتا معاً في المجلة العربية . ولقيت ردود فعل واسعة وكبيرة في الأوساط الأدبية في سورية . ولامني رحمه الله على ذلك وأني أعدته إلى ميادين قد هجرها منذ حين من الدهر .. وتمت المفاجأة عندما أذاعت هيئة الإذاعة البريطانية حلقة عن قصيدة الدكتور العجيلي وجميع القصائد التي عارضتها وكانت قد بلغت أكثر من عشرين نصاً لشعراء مختلفين وقال رحمه الله لقد انفضحنا على الأثير .
وقبل أن أغادر هذه الشخصية الآسرة والمؤثرة سأوردلكم تلك الواقعة التي حكاها لي الدكتورالعجيلي حيث
قال " في عام 1947 كنت نائباً في البرلمان السوري عن مدينة الرقة وفي ذلك المجلس كنت زميلاً للشاعر الكبير "بدوي الجبل"ا لذي كان نائباً وأميناً لسر المجلس وكان الرئيس العلامة " فارس الخوري" وفي أصيل أحد الأيام كنت في زيارة لصديقي الشاعر فاقترحت عليه أن يحضر معي ندوة لحفلة الزهراء كان موعدُها بعد ظهر ذلك اليوم على أن نخرج منها إلى جلسة المجلس مباشرة فلم يبد " البدوي" استجابة لما اقترحته وتعلل لذلك ثم نزل على إلحاحي عليه ومرافقتي بعد أن وعدته بأن نترك الجلسة مبكرين ، كان اجتماع الحلقة ككل جلساتها ندوة أدب وسمر رفيعين كما أنها إلى جانب رُوَّادها من المثقفين والكتاب تضم زمرة رائعة من السيدات والأوانس .. تألقت بينهن صبية فاتنه الحسن رقيقة التهذيب تفيض ظرفاً وحيوية هي الآنسة "سلمى" وبدا لي أن صديقي الشاعر لم يأسف على قدومه إلى الندوة بل إن جو الندوة راق له إلى درجة نسي فيها جلسة البرلمان التي حان انعقادها ، وكما حاولت إقناعه للحضور حاولت إقناعه للخروج والتوجه إلى المجلس وفي هذه الجلسة بينما كنت في مقعدي إلى جانب زملائي من النواب حتى جاءني أحد السعاة يحمل إلي ورقة مطوية من أمين السر الذي كان مقعده إلى جانب الرئيس .فضضت الورقة فإذا بها
لا تُبـالي والخـيرُ في أنْ تُبالي أَلِـهـجر تَصُـدّ أمْ لدلال
ضحكتُ...وسألني زملائي ماذا تريد الرئاسة فتنحيتُ جانبا ورحت أجيبه وكتبت تحت البيت
لوتراها وأومضـت مقلتاها
تسكب الشوق في ثنايا السؤال
أين لا أين عاشـق بدوي
ملهـم الروح عبقري الخيال
كُلُّنا في هواك صَبٌ عميدٌ
مثل بدوالسـهولِ بدوُالجبال
وأعدت الورقة مع الساعي إلى المنصة وعيني عليه ولاحظت كيف قرأ البدوي الورقة ومال بها إلى الرئيس يتلوها وكيف كان فارس الخوري يهز قامته الضخمة ولم ألبث بعض الوقت حتى عاد الساعي يحمل لي الورقة مرة أخرى وعليها
مالي سـلمى بعد المشيب ومالي
بدعة الحُب صبوتي واكتهالي
إنّ حبَّ الجمال أصبح عندي
بعد شـيبي عبادة للجمال
كلَّما لاح بارق من سـناه
جُنَّ قلبي وضلَّ أي ضـلال
هذه واحدة من روائع حكاياته التي تدل على شاعريته وظرفه وذكائه وروعة أدبه وثقافته. لقد سئل ذات مرة من أين
تأتي بهذه القصص والحكايات..فأجاب من الدكان المجاور في هذه المرحلة من حياتي الإبداعية .. كنت إلتقيت بالسيدة الدكتورنجاح العطار..وزيرة الثقافة السورية وكانت تحمل هذه الحقيبة منذ سنوات .. زرتها في مكتبها زيارة رسمية في بداية الأمر..ثم تكررت صلتي بها . وازددت إعجاباً بأسلوبها وثقافتها فقد كانت صانعة للكلمات وناحتة خلاَّقة . ذات أسلوب متميز ومتفرد لا يمكن لأي مبدع أن يجاريها كأنما تكتب بلغة فيها كل الفن والذوق الأدبي مع فصاحة وبيان لا أحلى ولا أجمل . عهدت إلي في هذه الفترة بأن أسعى على اختصار" ديوان سقط الزند" لأبي العلاء المعري . فاختار مجموعة من القصائد أقدمها وأنقحها لتصدر في كتيب صغير.حيث درجت وزارة الثقافة على إصدار كتب التراث في مختصرات يسهل حملها وتسهل قراءتها على الجيل الناشئ.وقد خطت وزارة الثقافة خطوات كبرى في هذا المضمار فصدرت المئات من هذه المختصرات في جميع المجالات في كتب التراث وأصبحت مكتبة قائمة بذاتها يُحسب عملاً كبيراً وجليلاً لهذه الوزارة في عهد الدكتورة نجاح العطار. ولقد صدر"الديوان سقط الزند" مختصراً عام 1999للميلاد وطبع منه أكثر من ( 6000) نسخة . صدرت لي مجموعات شعرية خلال الفترة من إقامتي في دمشق
فبعد ديواني " الرياض العشق الأول " صدرت المجموعة " حداء الصحراء " ثم " مجموعة " عشيات الحمى " . ثم صدرت الموسوعة الشعرية "نجد وأصداء مفاتنه في الشعر العربي "في (3) مجلدات 2000 صفحة . مع دراسة منهجية ، ومقدمات ، وتعريف بكل شاعر مع فهارس متعددة . وكنت بدأت هذا العمل منذ سنوات دراستي في الكلية وسجلت معظم القصائد والأبيات عن نجد على بطاقات زادت على أربعة آلاف بطاقة . وأعتقد أنني بهذا حققت أمنية غالية طالما حلمت بتحقيقها ومع دهشتي الكبيرة ودهشة الآخرين بهذا الاهتمام بهذه البقعة الجغرافية من قبل الشعراء والتغني بها إلى يومنا هذا فأني لازلت مندهشاً
لهذا الاهتمام من قِبَلي بجمع ذلك الكم الشعري من ديوان نجد. مع أن بقاعاً أخرى من الكون حباها الله طبيعة وجمالاً لم تلق هذا الاهتمام
ماتقدم كانت ومضات سريعة وإضاءات ، رغبت أن تكون موجزة نظراً للوقت المخصص لمثل هذه المناسبة أرجو أن أعود إليها وإلى الذاكرة التي فقدت بعض نشاطها . لأعيد للمسيرة الكثير من الجوانب التي تم تجاوزها ، وليكون في إصدار أكثر شمولاً ودقة وترتيباً وتشويقاً ... والله المستعان وهو قصد السبيل
الرياض
خالد محمد عبدالله الخنين
1431 /2010
bottom of page